سورة الذاريات - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الذاريات)


        


{قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}.
الخطب: الشأن العظيم، والأمر الخطير ذو البال.
ولقد ذهب عن إبراهيم الرّوع من ضيفه هؤلاء، بعد أن عرف أنهم من ملائكة الرحمن، وسكنت امرأته بعد هذا الهياج الذي استولى عليها من أن يكون لإبراهيم ولد منها بعد هذه الشيخوخة والعقم!.
وهنا يتجه إبراهيم إلى ضيفه من الملائكة يسألهم عما جاء بهم إليه.
إنهم لم يجيئوا على تلك الصورة الغريبة، التي أوقعت الرّعب في قلبه ليبشروه بغلام.. فإن الذي يحمل البشرى إنما يقدّم بين يديه دلائل هذه البشرى وأماراتها، بل إن ريح البشرى نفسها لتسبق الحامل لها، فيجد لها المحمولة إليه، وقعا طيبا في نفسه، وشعورا مسعدا في كيانه، قبل أن تبلغه.. تماما كما وجد يعقوب من ريح يوسف، قبل أن يأتيه البشير بقميصه.. ومن هنا كان سؤال إبراهيم الملائكة عما وراءهم، من أمر خطير، وماذا يحملون من شئون تتصل به من قريب أو بعيد؟.
وفى نداء إبراهيم لهم باسم المرسلين، لا باسم الملائكة، إشارة إلى أنهم ليسوا مجرد ملائكة عابرين به، بل إنهم محمّلون برسالة من رب العالمين.
فهو يسألهم عن محتوى ما أرسلوا به إليه.
قوله تعالى: {قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}.
أي أننا لم نرسل إليك بما توقّعته من شرّ، وإنما أرسلنا إلى قوم مجرمين.
والقوم المجرمون، هم قوم لوط، كما يفهم ذلك من مواضع أخرى في القرآن الكريم.
{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ}.
هو بيان السبب الذي من أجله أرسل هؤلاء الرسل إلى القوم المجرمين، قوم لوط.. إنهم أرسلوا إليهم ليرسلوا عليهم حجارة من طين، وكأنّ هذه الحجارة هى الرسل التي تنزل عليهم من السماء بالدمار والهلاك، في حين أن هناك رسلا أخرى تنزل على المكرمين من عباد اللّه بالرحمة والإحسان.
وفى وصف الحجارة بأنها من طين- إشارة إلى أن هذا الطين اللّين الرخو، يفعل بقدرة اللّه فعل الحجارة الصلدة، فيهلك، ويدمّر، وكأنه الصواعق المنقضّة من السماء.
وقوله تعالى: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ}: أي مقدّرة، ومهيأة عند اللّه ومرصودة لهؤلاء القوم {المسرفين} الذين جاوزوا الحدّ في الضلال، وفى ارتكاب هذا المنكر الذي كانوا يعيشون فيه، ففى كل حجر سمته التي وسم بها، والتي تحدّد له موقعه من القوم، وصرعاه الذين يقع عليهم.
{فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
لم تذكر الآيات هنا ما كان من إبراهيم من مراجعة الملائكة في هذا الأمر الذي جاءوا به، ومن تخوفه على لوط أن يناله سوء مما يحل بهؤلاء القوم الذين سترسل السماء عليهم هذه الحجارة المهلكة، ولوط بينهم- لم تذكر الآيات هذا، لأنه قد ذكر في مواضع أخرى، كما في قوله تعالى على لسان إبراهيم: {قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً} وقد أجابه الملائكة بقولهم: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها.. لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} [33: العنكبوت].
وهذا القول هو من اللّه سبحانه وتعالى، وهو إخبار بما انتهى إليه أمر هؤلاء القوم المسرفين، وما كان من نجاة لوط ومن آمن معه.
والضمير {فيها} للقرية، قرية لوط وقومه.. ولم تذكر هنا، لأنها معروفة بما ذكر عنها في مواضع أخرى من القرآن الكريم، ثم لأنها معروفة ضمنا في هذا الحديث، إذ من المعروف أن القوم يسكنون في قرية أو قرى!.
{فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
أي لم يكن في هذه القرية إلا بيت واحد استحق السلامة والنجاة من هذا البلاء الذي أتى على القرية وأهلها.. وهو بيت لوط ومن آمن من أهله.
{وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ}.
أي أن هذه القرية قد ذهبت بمن فيها، وبقي من هذه القرية آثار واضحة من الدّمار والهلاك الذي حلّى بها وبساكنيها.. يراه من كان يمر عليها بعد هذا العذاب الذي نزل بها، ثم بقي لها بعد ذلك ذكر سيّىء في صحف التاريخ، وفى الكتب السماوية التي نزلت على رسل اللّه بعد هذا.
وفى هذا وذاك آية، الذين يؤمنون باللّه، ويخافون العذاب الأليم يوم القيامة، فيرون في تلك الآية سلطان اللّه وقدرته، وأخذه الأليم الشديد لمن يخرجون عن صراطه المستقيم.


{وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَتَرَكْنا فِيها آيَةً} أي وتركنا كذلك آية فيما كان بين موسى وفرعون.
والسلطان المبين الذي أرسل به موسى إلى فرعون، هو ما كان معه من آيات معجزة متحدية، كالعصا، واليد.
وقوله تعالى: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أي أعرض عن النظر في هذه الآيات، معتزا بركنه، أي قوته وسلطانه.. والركن: ما يركن إليه الإنسان في الملمات، ويحمى ظهره به، كما يقول تعالى على لسان لوط، مخاطبا قومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [80: هود].. والجارّ والمجرور حال من الفاعل المستتر وهو فرعون.
وقوله تعالى: {وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} حال أخرى من فرعون ساعة توليه وإعراضه عن دعوة الحق، التي يدعوه إليها موسى، أي تولى معتزّا بركنه وقوته، قائلا هذا القول الآثم في موسى: {ساحر أو مجنون}.
وساحر خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو، أي موسى.. ولم يذكر موسى ظاهرا أو مضمرا، حماية له من أن يقال هذا القول المنكر فيه.
وقوله: {ساحر أو مجنون} إشارة إلى أن هذا القول لم يكن من فرعون عن علم، وإنما هو رمية من رميات طائشة، يرمى بها من غير حساب أو تقدير.
فهو متردد في الحكم الذي يحكم به على موسى.. ولكن لا بد من أن يصدر حكما، وبقول قولا.
وهذا شأن أهل الضلال، حين يقهرهم الحق، وتسقط من بين أيديهم الحجة على دفعه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في هذه السورة عن المشركين الذين قالوا مثل هذا القول في رسول اللّه محمد صلوات اللّه وسلامه عليه: {كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ} (الآيتان: 52- 53).
{فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ}.
المراد بالأخذ هنا، الأخذ الذي يرد بصاحبه موارد الهلاك، وأخذ اللّه سبحانه لا يكون إلا حيث تقع نقمه، وينزل بلاؤه.. مثل قوله تعالى لفرعون: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى} [25: النازعات].
وقوله تعالى: {فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ}.
أي ألقيناهم في اليم، أي البحر، ونبذ الشيء، طرحه وإلقاؤه دون مبالاة.
وقوله تعالى: {وَهُوَ مُلِيمٌ}.
جملة حالية، تصف الحال التي كان عليها فرعون، حين نبذ هو وجنوده في اليم.
والمليم. المستحق للّوم، وفعله: ألام: أي أوقع نفسه فيما يلام عليه.
وفى عود الضمير على فرعون وحده في قوله تعالى: {وَهُوَ مُلِيمٌ}.
إشارة إلى أنه هو وحده الذي يحمل وزره ووزر قومه، إذ كان هو داعيتهم إلى هذا الضلال.. أما قومه فإن كلا منهم يحمل وزر نفسه، لمتابعته الداعية الذي دعاه إلى هذا الضلال.
{وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}.
معطوف على قوله تعالى: {وَفِي مُوسى} فهو عطف حدث على حدث.
والريح العقيم، هى الريح التي فسدت طبيعتها، فلا تلد خيرا أبدا، بل تلد الهلاك والدمار لمن تشتمل عليه، وتلفّه في كيانها، والأصل في الريح أنها تجىء محمّلة بالخير، بل والحياة للأحياء كلها، إذ منها يتنفّس كل حى أنفاس الحياة.. ولكن هذه النعمة قد صارت نقمة على القوم الضالين.
وقوله تعالى: {ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} هو بيان لما تترك هذه الريح العقيم من آثار ومخلّفات وراءها.. إنها لا تترك شيئا تمرّ عليه إلّا دمّرته، وحطمته، وأتت على كل صالحة فيه، فيتحول إلى كيان بال متفتت.
والرميم: العظام البالية، والرّمة: الحبل البالي، والرّمّ: إصلاح الشيء البالي.
قوله تعالى: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ}.
هو معطوف كذلك على قوله تعالى: {وَفِي عادٍ} عطف حدث على حدث، وقصّة على قصة.
أي وفى ثمود آية.. بما أخذهم اللّه به من نكال وعذاب.
فلقد كان القوم في نعمة ظاهرة، وقوة متمكنة، إذ بوّأهم اللّه الأرض، وملّكهم القدرة على إثارتها وعمرانها، فاتخذوا القصور في سهولها، ونحتوا البيوت في جبالها، كما يقول سبحانه على لسان نبيهم صالح إذ يقول لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً} [74: الأعراف].
وفى قوله تعالى: {إذ قيل لهم تمتعوا} إشارة إلى هذه النّعم التي كان القوم فيها، وأنها تتيح لهم التمتع بحياة طيبة فيها، لو أنهم رعوها حق رعايتها، ولم يلبسوا بها ثوب الغرور والجهالة، ولم يتخذوا منها سلاحا يحاربون به اللّه، ويحادّون رسوله.
ولم يقل لهم أحد تمتعوا، ولكنه لسان الحال إذ ما سيقت إليهم هذه النعم إلا ليعيشوا فيها، وليتمتعوا بها إلى أن تحين آجالهم.
وقوله تعالى: {حَتَّى حِينٍ} بيان للغاية التي يكون تمتع القوم فيها بهذه النعم، وأنها لا تنقطع عنهم حتى يحين أجلهم المقدور لهم عند اللّه.
وقوله تعالى: {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} العتوّ: التمرد والاستعلاء.
وقوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} هو تعقيب على عتوّهم، وخروجهم عن أمر اللّه.. وأن هذا العذاب الذي أخذوا به، إنما هو لعتوّهم، وتمردهم على اللّه، وكفرهم به.
وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ} أي حين نزل بهم العذاب، بهظهم، وكظم أنفاسهم.، ولم يجدوا معه قدرة على أن يقوموا لدفعه، والهروب من وجهه.
وقوله تعالى: {وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ} أي وما كانوا منتصرين على هذا العذاب لو أنهم قاموا له، وتلقّوه بكل ما معهم من حول وحيلة.
قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ}.
هو معطوف على المفعول به في قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ}.
أي وكذلك أخذ العذاب قوم نوح من قبل هؤلاء الذين أخذهم اللّه سبحانه بعذابه.. {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ} أي خارجين عن أمر ربهم، متجاوزين حدوده.


{وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}.
الأيد: القوة، والتمكن.
والآية معطوفة على الآية السابقة: {وَقَوْمَ نُوحٍ} أي وقوم نوح أخذناهم بالعذاب، والسّماء بنيناها بأيد.
ومع ما يبدو من بعد المفارقة في الظاهر بين أخذ قوم نوح، وبين بناء السماء- فإن هذه المفارقة تبدو موافقة، إذا نظرنا إلى قدرة اللّه سبحانه وتعالى، وقيومته جلّ شأنه، على كل شىء.. فهو سبحانه، يحيى ويميت، ويغنى، ويقنى، ويرفع ويضع، وهو سبحانه الذي أخذ الظالمين بالهلاك، وهو جلّ شأنه الذي أقام السماء بقدرته.
وفى قوله تعالى: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} إشارة إلى امتداد السماء واتساعها، كما يبدو ذلك لأى ناظر ينظر إليها، حيث لا يبلغ الإنسان لها حدّا، فحيث كان من عالم الأرض، فإن السماء تظلّه على امتداد الآفاق، حوله.
فإذا نظر بعين العلم، أراه العلم أن هذا الوجود في نماء مستمرّ، وأنه أشبه بالكائن الحىّ في دور نموّه واكتماله.. وفى حين أن الكائن الحىّ يبلغ حدّا يقف عنده، إلا أن الوجود في نمو دائم لا يتوقف، ولعل هذا من بعض ما يشير إليه قوله تعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ} [1: فاطر].
قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ}.
معطوف على قوله تعالى: {وَالسَّماءَ بَنَيْناها}.
وقوله تعالى: {فَنِعْمَ الْماهِدُونَ} هو ثناء من اللّه سبحانه وتعالى من ذاته على ذاته، كما في قوله تعالى: {فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} [14: المؤمنون] وقوله سبحانه: {تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [1: الملك] وقوله جل شأنه: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً} [1: الفرقان].
وفرش الأرض: بسطها كما يبسط الفراش للنوم، والماهد: الذي يهيىء الشيء ويمهده كما تمهد الأرض للزرع، وكما يمهد الفراش للنوم، ومنه المهد، وهو ما يهيهأ من فراش لنوم الوليد.
والمخصوص بالمدح، دلّ عليه المقام، أي فنعم الماهدون نحن، أي اللّه سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
هو معطوف على ما قبله، أي وفرشنا الأرض، وخلقنا من كل شيء زوجين.
و{من} هنا للاستغراق.. أي وكلّ شيء خلقناه متزاوجا.. أي أن الشيء الواحد ليس في حقيقته شيئا واحدا، وإنما هو شيئان اجتمع بعضهما إلى بعض، فكان منهما هذا الشيء.. وهذا دليل على أن الخالق وحده، هو الواحد الذي لا شريك له.
فالخليّة التي هى أصل بناء الكائن الحىّ، تنقسم على نفسها، في عملية أشبه بعملية التوالد، وبهذا الانقسام ينمو الكائن الحىّ.. فالحلية تنقسم إلى خليتين، وكل خلية منهما تنقسم إلى خليتين.. وهكذا، إلى ما لا يحصى من الخلايا التي يضمها كيان الكائن الحىّ من مولده إلى تمام نموه.. فإذا تم نمو الكائن الحىّ لم تتوقف عملية التوالد، وإنما يقابلها من جهة أخرى عملية الهدم، في نسب تأخذ في ازدياد ما يهدم على ما يبنى، كلما تقدم الكائن الحىّ نحو طريق الفناء.. فإذا توقفت عملية البناء، مات الكائن الحىّ.
هذا في الخلية.. وكذلك الشأن في النواة، إنها تتكون من فلقين يضمان بينهما بذرة الحياة، التي لا تأخذ طريقها إلى الحياة إلا إذا وجدت الظروف الملائمة التي تعمل على فلق النواة إلى شقّيها، وإخراج بذرة الحياة منهما.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى} [95: الأنعام].
والإنسان خلية كبيرة مكونة من أعداد لا تعدّ بحسابنا- من الخلايا، وكما يتم نموه الشخصىّ بالتوالد الذاتي بين خلاياه، يتم نموه الجنسي بالتزاوج بين الذكر والأنثى، وذلك بين خلية من الذكر وخلية من الأنثى عند التقاء الرجل بالمرأة.. وهكذا الحيوان، والنبات.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً} فإذا تجاوزنا عالم الأشياء التي تتوالد بالزواج، وجدنا هذه المزاوجة قائمة في عالم المعاني، مثل الحق والباطل، والخير والشر، والإيمان والكفر، والهدى والضلال، والسعادة والشقاء.
وهكذا المزاوجة في كل شىء، حيث لا يوجد شيء إلا وله ما يقابله.. وذلك مما يشهد للّه سبحانه وتعالى بالوحدانية والتفرد، فهو الواحد الأحد، الفرد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
الفرار إلى اللّه: الالتجاء إليه، والاحتماء به، والاستظلال بظله.
وفى الدعوة بالفرار إلى اللّه، إشارة إلى أن هناك خطرا يتهدد الإنسان، إذا هو خرج عن أمر ربه، وحاد عن الصراط المستقيم.. إنه حينئذ يقع تحت يد الشيطان، الذي يفترسه، كما يفترس الذئب ضالّة الغنم.
وقوله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} هو بيان من الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه، يدعو الناس إلى اللّه، وأن يعجلوا بالفرار إليه، وتلك الدعوة ليست من عنده، وإنما هو رسول اللّه بها إليهم.. إنه نذير مبين من اللّه إليهم، يبيّن لهم بما معه من كلمات ربه، طريق الهدى، وينذرهم من عذاب اللّه إذا هم خرجوا عن هذا الطريق، وركبوا طريق الضلال.
قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
ومن مقتضى الفرار إلى اللّه، الإيمان به، والإقرار بوحدانيته، واطراح كل معبود سواه.
وجاء النهى هنا عن الشرك باللّه، وعن اتخاذ إله آخر معه، تأكيدا لما تضمنه الأمر بالإيمان باللّه الذي هو حبل النجاة، فإذا أمسك به الإنسان كان في الناجين، على أي وجه كان عمله بعد ذلك.
وفى قوله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} تأكيد لهذه الدعوة التي يدعو الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- الناس إليها، وهى الإيمان باللّه وحده.
وفى إعادة فاصلة الآية: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} إعجاز من إعجاز القرآن، حيث يجعل من الآيتين- الآمرة والناهية آية واحدة، الأمر الذي يدعو إلى الجمع بينهما، والأخذ بهما جميعا، وأن الأخذ بواحدة منهما لا يغنى عن الأخذ بالأخرى.. وكأن نظم الآيتين هكذا.
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
ولكن شتان بين هذا النظم، وبين ما جاء عليه النظم القرآنى المعجز.
ففى النظم القرآنى، يقوم على الأمر نذير مبين، وعلى رأس النهى يقوم هذا النذير المبين أيضا.. إن هذه دعوته، وتلك دعوته وهو بهذا يأمر، وبذلك ينهى.
فإذا أخذ المأمور بما أمر به، وانتهى المنهىّ بما نهى عنه- كانت نجاته، وكانت سلامته، وكان فوزه.. أما إذا أخذ بواحدة دون الأخرى، فهيهات أن يسلم ويبلغ مأمنه.
فقد يفر المرء إلى اللّه، ومعه إله أو آلهة أخرى يحملها في كيانه، ويحتفظ لها بمكانها من قلبه.
وقد لا يجعل الإنسان مع اللّه إلها آخر، ولكن قد يكون ذلك كمجرد فكرة حبيسة في عقله، أو نظرية فلسفية تقيم بناء منطقه الفلسفي.. ثم لا يكون لهذه الفكرة أو تلك النظرية منطلق نزوعىّ أو سلوكى، يرد به موارد الهدى، ويسلك به مسالك الخير.
والفرار إلى اللّه يجعل من الإيمان به حركة دائبة إلى العمل الطيب القائم في ظلّ هذا الإيمان.
واستصحاب الإيمان باللّه، إيمانا خالصا من الشرك في حال الفرار إليه، يجعل هذا الفرار محمود العاقبة، بالغا بصاحبه مأمنه.
قوله تعالى: {كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}.
هو بيان لحال هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع اللّه إلها آخر، إنهم لا يستجيبون لهذا النذير المبين، الذي يدعوهم إلى الإيمان الخالص من الشرك باللّه، وينذرهم عاقبة هذا الضلال الذي هم فيه، وهم يأبون إلا التكذيب به، والبهت له، والسفاهة والتطاول عليه.. فيقولون فيما يقولون عن هذا النذير:
ساحر أو مجنون.
وإن حالهم تلك شبيهة بحال أهل الضلال والشرك من قبلهم، الذين لم يأتهم رسول من رسل اللّه يدعوهم إلى الإيمان باللّه، إلّا تلقوه بهذه المقولة الآثمة: {ساحر أو مجنون}.
وقد قالها من قبل فرعون، إذ جاءه موسى بآيات من اللّه وسلطان مبين: {فتولى بركنه وقال: ساحر أو مجنون}.
وفى هذا عزاء للنبى، ووعيد المشركين بأن يلقوا المصير الذي لقيه المكذبون برسل اللّه من قبلهم.
قوله تعالى: {أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ}.
هو استفهام إنكارى يكشف عن هذه الطبيعة المنكرة المندسّة في أهل الضلال.. ولكأنّ هذا الضلال داء خبيث معد، يرثه الأبناء عن الآباء، جيلا بعد جيل.. أو لكأنه عند أهله عمل مبرور، يتواصون به فيما بينهم، ويتركونه ميراثا لأبنائهم من بعدهم.
وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ} إضراب على هذا الاستفهام، فإنه لم تكن هناك دعوة قائمة بالتواصى بين هؤلاء الضالين، السابقين منهم واللاحقين، ولكنها النفوس النكدة، والطباع اللئيمة، تفرز من ذاتها هذا الضلال الذي يغرقها، ويغرق من يأخذ طريقه معها.
قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ}.
هو أمر للنبىّ الكريم بأن يعرض عن هؤلاء الأشقياء، وبدعهم للمصير المشئوم الذي هم صائرون إليه، مع ضلالهم وكفرهم.. وإنه ليس على النبي لوم فيما سيلقاهم من بلاء ونكال، بعد أن بلّغهم رسالة ربهم هذا البلاغ المبين الذي احتمل في سبيله ما احتمل من سفه السفهاء، وجهل الجاهلين.
قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي فتولّ عن هؤلاء المعاندين الضالين، ولا ترهق نفسك بالجري وراءهم، ولكن ذلك لا يمنعك من أن تقوم على دعوتك، وأن تؤذّن بها في الناس.. فذلك هو شأنك، ودأبك، وهو أسلوب رسالتك التي تدعو إليها.. {إِنَّها تَذْكِرَةٌ.. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ} [55: المدثر].. {فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [21، 22 الغاشية].. {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [27، 28 التكوير] فعرض الدعوة على الناس، وكشف معالم الهدى لهم، بما يتلى عليهم من آيات اللّه.. وإن لم يلتفت إليه كثير منهم، ولم يأخذوا طريقهم إليه أمر مطلوب من النبي، فإن كثيرا من الناس ينتفعون به، ويقيمون وجوههم عليه، كما أن المؤمنين الذين آمنوا باللّه، واستجابوا لدعوة الحق، يزيدهم هذا التذكير إيمانا، ويقع من قلوبهم موقع النفع، فيقوّى يقينهم، ويثبت أقدامهم على طريق الحق.
قوله تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
هو دعوة للناس إلى أن يستجيبوا لما يدعوهم الرسول إليه، وأن يقوموا على الأمر الذي خلقهم اللّه سبحانه وتعالى له، وهو عبادته.. فما خلق الإنسان إلا ليكون عبد اللّه، عابدا له، مظهرا بعبوديته وعبادته جلال المعبود، وعظمته، وسلطانه.
وليس الجنّ والإنس وحدهما، هما اللذان خلقا لعبادة اللّه، بل إن كل مخلوق، وكل موجود، خلق لهذه الغاية، حيث تتجلّى في المخلوقات جميعها ألوهة الإله، وقدرته، وعظمته.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} [93: مريم] ويقول جل شأنه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ} [15: الرعد].. ويقول سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [44: الإسراء].
فالكافر الذي لا يؤمن باللّه، ولا يسبح بحمده، هو مؤمن باللّه كرها ومسبّح بحمده قسرا.. فكل ذرة فيه، وكل جارحة من جوارحه، تسبح بحمد اللّه، وتؤدى وظيفتها على الوجه الذي أقامها اللّه سبحانه وتعالى فيه.. فالخلايا التي يبنى منها الكيان الجسدى للإنسان تسبّح بحمد ربها في عملها الذي تؤديه بناء أو هدما في الكيان الإنسانى، والقلب بخفقاته، والدم بجريانه في العروق، والعروق بحملها للدم، وتغذيتها الجسم به، والعين في نقلها المرئيات، والأذن بتلقيها للمسموعات.. وهكذا كل ما في الإنسان- ظاهرا أو باطنا- يسبح بحمد اللّه.. وكذلك الشأن في كل موجودات الوجود، ما نعلم منها وما لا نعلم، تسبح بحمد اللّه، وتقوم بما خلقها اللّه له.
وفى اختصاص الجن والإنس من بين المخلوقات، بالذكر، إشارة إلى أنهما هما المخلوقان اللذان لهما إرادة عاملة، وهما بهذه الإرادة يعملان، فيؤمنان أو يكفران، ويطيعان أو يعصيان، ومن هنا وقع عليها التكليف، وحقّ عليهما الحساب والجزاء، بمقتضى ما يعملان من خير أو شر.
وقد تكون هناك مخلوقات أخرى لها إرادة، وعليها تكليف وحساب وجزاء، ولكن الذي يقع في محيط الإدراك الإنسانى، هو ما يعلمه الإنسان من نفسه، وما بلغه من رسالات الرسل، كما كان علمه بالجنّ، وأنهم مكلفون، ومنهم المؤمنون، ومنهم القاسطون.. كما أخبر بذلك رسل اللّه.
قوله تعالى: {ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى غنىّ عن عبادة عباده، وعن إيمان المؤمنين به.. فما يريده سبحانه وتعالى من عبادة العابدين ومن إيمان المؤمنين، هو لذات أنفسهم! وللخير الذي يحصّلونه من العبادة والإيمان، وللجزاء الحسن الذي ينالونه بطاعتهم للّه، وولائهم له.. فليست هذه العبادة، وهذا الولاء مما ينتفع اللّه سبحانه وتعالى بشىء منه. إن اللّه غنى عن العالمين:
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [7: الزمر].
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.
فاللّه هو الرزاق الذي يفيض رزقه على عباده، ويمنحهم من فضله ما يمسك عليهم وجودهم، ويقيم حياتهم، وهو سبحانه، ذو القوة القادرة المقتدرة، بيده مقاليد السموات والأرض.. وإذ كان هذا شأنه سبحانه، فإن أعمال خلقه من خير أو شرّ لا تجلب له خيرا أو ضرّا.. إنه سبحانه فوق المؤثرات، خيرها وشرّها، لأن التأثر عارض يعرض للمخلوقات التي تقبل بطبيعتها الزيادة والنقص.. واللّه سبحانه، الكامل الكمال المطلق، الذي لا يقبل زيادة أو نقصا، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ}.
هو وعيد للذين لم يستجيبوا للّه، ولم يؤمنوا به، فأوقعوا بأنفسهم ظلما فادحا، يتجرعون منه كؤوس البلاء والعذاب.
والذّنوب: الدلو، أو السّجل، يملا ماء، والمراد به هنا ذنوب مملوء عذابا لهؤلاء الظالمين، مثل ما يملأ لأصحابهم الذين سبقوهم من أهل الضلال، وذلك على عادة العرب في الاستقاء من الآبار، حيث يتساجلون، فيملأ هذا دلوا، والآخر دلوا.
وقوله تعالى: {فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} تهديد ووعيد لهم، بأن هذا الذي يستعجلونه من العذاب، استخفافا به وتكذيبا له، هو واقع بهم، ويؤمئذ لا يجدون وليّا ولا نصيرا.
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}.
أي هلاك وبلاء واقع بهؤلاء الظالمين الذين كفروا، وذلك في اليوم الموعود، الذي أنذروا به، وإنهم لملاقوه، وملاقو العذاب الأليم فيه.
وقوله تعالى: {مِنْ يَوْمِهِمُ} متعلق بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ} أي أن هذا الويل، سيرد عليهم من يومهم الموعود هذا، فهو يوم كله ويل، لا يجيئهم منهم إلا ما يسوؤهم ويلبسهم ثيابا من نار جهنم.

1 | 2